ترجمة ما لا يُرى: سماء غزّة في أفق آن كارسون

آلاء القيسي
This is a translation by Alaa Alqaisi of her article
Translating the Unseen: Gaza’s Sky and Anne Carson’s Vision
كانت البداية برسالة إلكترونية وردتني من البروفيسور جيمس هيني، أستاذ الأدب الإنجليزي والدراسات الأيرلندية في جامعة كارلو، يطلب فيها مساعدتي في ترجمة نصٍّ عربيّ لطلابه، يُفترض أن يُرافق دراستهم لكتاب
Wrong Norma
الذي صدر عام 2024 بقلم الشاعرة آن كارسون. تلك الشاعرة التي يتسع خيالها حتى ليكاد يلامس تخوم الأسطورة، وتنساب كلماتها محمّلةً بإيقاع الفلسفة ورموزها، كانت تمثّل لبّ الدرس وروحه. غير أن ذلك النص العربي، الذي بدا في بادئ الأمر تفصيلاً عابرًا، خرج من بين تأملات كارسون بهدوء، كمن يتسلّل على أطراف الضوء، وقد خطّه المهندس اليمني فيصل بن علي جابر، المشارك في تأليف العمل. لم يكن النص حاشيةً ولا تعليقًا عرضيًّا، بل كان بمثابة جسر يقاطع التجريد بما هو فجٌّ وحقيقي، ويعبر من عالم الفكر إلى عالم الدم والبارود؛ جسرًا بين تأملات كارسون الذهنية والحقائق العارية التي تفرضها الحرب في يومياتها الثقيلة.
كان ذلك النص العربي تأملًا عميقًا في الحرب وآلتها الباردة، في الفتك الأعمى الذي تمارسه أدوات العنف الحديثة، حيث تُباد الأرواح دون وجه، وتُسحق الحياة دون صوت. وما إن شرعتُ في ترجمته إلى الإنجليزية، حتى بدا لي أنني لا أقف أمام مجرّد تمرين أكاديمي، بل أمام مواجهة جذرية مع ذاتي وواقعي؛ فأنا أعيش في غزة، وأحمل عبء الترجمة لا كمهنة فحسب، بل كشهادةٍ حية على ما يقوله النص بحدة تكاد تكون لا تُحتمل، شهادة من داخله، من بين أنقاضه، على حقائق أعرفها لا بالقراءة بل بالتجربة.
كان النص العربي سبرًا عميقًا لأغوار النفس، يرسم سماءً تبدّلت هيئتها تحوّلًا أشبه بالسحر الكيميائي، حتى خرجت من عالم النقاء السماويّ وصفاء الأفق إلى فضاء معدنيّ صامت وبلا حياة، تدبّ فيه الطائرات المسيّرة والصواريخ كما تسير التروس في آلة جامدة، بلا ملامح وبلا وجه وبلا رحمة. تلك السماء، التي كانت يومًا رمزا للحرية والانعتاق، غدت مثقلة بثقل الوحشية البشرية، ترتعد بصمت القسوة. ولم يكن عليّ أن أتخيل ما أراد النص قوله، إذ كانت تلك السماء الموصوفة سمائي أنا، السماء التي أعيش تحتها كل يوم في مدينة غزة. كانت الترجمة، إذن، أبعد ما تكون عن مجرّد جهدٍ لغوي أو تمرين أكاديمي؛ كانت مواجهة شخصية لا مفرّ منها، مواجهة مع حقيقةٍ أحياها ولا أنقلها. ماذا يعني أن تترجم نصاً عن الحرب بينما الحرب تحفر تفاصيلها في جلد أيامك؟ كنت مع كل جملة أخطّها، أشعر بظل كارسون يخيّم على النص، رغم غيابها الظاهري عنه، كأن روحها الثانية تتسلل إلى بين السطور. قدرتها الفريدة على تفكيك الأسطورة والتاريخ والعاطفة، ثم إعادة نسجها في نسيج واحد، كانت حاضرة هنا على نحوٍ لا يُخطئه قلب. بدا لي النص وكأنه يستجيب لسؤالها الخفيّ: ماذا تصنع الحرب حين تفقد وجهها بداخل أرواحنا؟
غير أن ما يثير الدهشة في هذا السياق، ويعمّق المفارقة، أن كارسون لم تكن صاحبة هذا النص. فهو نص وُلد من رحم العربية، ونبضه ينبع من قلب التجربة، بإيقاع محلّيّ مشبعٍ بمذاق المعاناة، كأن كل جملة فيه كُتبت بأنفاس أرهقها الحصار. ومع ذلك، فإن طريقه إليّ لم يكن طريقًا مباشرًا، بل محفوفًا بطبقاتٍ من المعنى والتاريخ. رجل أيرلندي، تحمل بلاده في ذاكرتها جراح الاستعمار التي لم تُشفَ بعد، يطلب من مترجمة فلسطينية تعيش تحت القصف في مدينة غزة أن تنقل تأمّلًا وُلد بلغتها إلى الإنجليزية، تلك اللغة التي أنجبها الشعر وصاغها الجمال، لكنها ما لبثت أن تشكّلت أيضًا في أروقة الجيوش وأفواه المستعمرين. لم تكن الترجمة في هذا السياق مهمة مهنية عابرة؛ بل كانت مواجهة حية بين تواريخٍ متنازعة، وحوارًا مكتومًا بين هويات مثقلة بندوبها، وارتطامًا خفيًا بين آلام تجتاز القارات لتلتقي على صفحةٍ واحدة، دون ضجيج، ولكن بثقل الحقيقة.
يُفتتح كتاب
Wrong Norma
بمحاضرةٍ تحمل عنوان “تاريخ الكتابة على السماء“، ساهمت آن كارسون في تأليفها إلى جانب كلٍّ من روبرت كوري وفيصل بن علي جابر، المهندس اليمني الذي فقد ابن أخته وصهره في غارة نفّذتها طائرة أمريكية مسيّرة عام 2012. ورغم أن هذه المحاضرة كُتبت قبل أكثر من عشرة أعوام، فإن صداها ارتدّ بقوّة في فضاء الحرب التي اندلعت في غزة عام 2023. تتأمل كارسون في ذلك النص سعي الإنسان الدائم، عبر العصور، إلى أن يترك أثرًا له في السماء؛ من خيوط الأساطير الأولى إلى خطوط الدخان التي ترسمها تقنيات الكتابة الجوية الحديثة.
أما غزة، فهي المدينة المحاصَرة بامتياز؛ شريط ضيّق مكتظّ بنحو مليونيّ نسمة، تحاصرهم اليابسة من جهة، والمياه من جهة أخرى. لا براريَ فيها ولا اتّساع يروّض خشونتها، ولا طبيعة تحتضن الضيق بشيءٍ من الرحمة. لا يمتدّ أمامنا إلا البحر، بملوحته اللامبالية، وفوقه السماء، واسعة وعالية وبلا حدود. لا أستطيع إحصاء عدد المرات التي وقفت فيها أمام البحر أحدّق في السماء، مأخوذة بذلك الخطّ الخفيّ حيث يتعانق الأفق مع المجهول. طالما تساءلت: ما الذي يكمن خلفه؟ ما الذي ينتظرنا ما بعد هذا الخطّ؟ في تلك اللحظات، كانت السماء تبدو كأنها فسحة إمكان أو لوحة بيضاء يُرسم عليها الحلم.
أما اليوم، فلم تَعُد سماء غزة فسحةً للأساطير ولا ساحةً للآمال. إنها سماء مُعلّقة بالسلاح، ممتلئة بالطائرات والرعب. تسأل كارسون في محاضرتها: ماذا يعني أن نكتب على السماء؟ أما في سياقنا، فإن السؤال ينقلب إلى صيغة أكثر مرارة: ماذا يعني أن نعيش تحت سماءٍ قد تحوّلت إلى سلاح؟ ترجمة هذا النص إلى الإنجليزية، ليجاور مع عمل كارسون، لم تكن فعل ينقل المعنى فحسب، بل كانت فعل خياطة بين واقعين متداخلين، كلٌّ منهما نُسج من خيط الحرب، لكن بلونٍ خاص، وندبة لا تُشبه الأخرى.
لطالما شغلت أعمال آن كارسون بتفكك اللغة وتصدّع الزمن وانكسار الهوية الإنسانية، وكانت قصائدها تحلّ في تلك اللحظات التي يتهاوى فيها المعنى، فينهض الصمت ليملأ الفراغ. وقد بدا لي النص العربي كأنه يقف في مواجهة هذا الصمت، لا ليعارضه فحسب، بل ليفضح ما يحاول محوه، ويسمّي الوجوه التي تسعى الإبادة إلى طمسها. كان النص فعل مقاومة للنسيان، وإصرارًا على البقاء في موقع الشاهد. أما ترجمته إلى اللغة الإنجليزية، التي تنزع بطبعها نحو الاختزال والتجريد، فكانت مهمّة محفوفة بالحذر والدقة. فاللغة العربية لا تُنقل على محمل الحروف وحدها؛ إنها لغة تتكئ على إيقاعها الداخلي، مشبعة بالظلال والدلالات، عصيّة على التبسيط، تُقاوم التفريغ، وتأنف الفقدان. وفي المقابل، تميل الإنجليزية، بخفة نحوها وسلاسة تراكيبها، إلى تسوية الحوافّ الخشنة التي يخلّفها الألم، وكأنها تروّض حدّة المعاناة. فكيف، إذن، يمكن نقل هذا التأمل الفلسفي في الحرب بوصفها خيطًا ممتدًّا، ينسج التاريخ الإنساني بالرماد والدم؟ هذه ليست أسئلة لغوية، بل أسئلة أخلاقية في المقام الأول. وكان لزامًا عليّ، في كل سطر، أن أُبقي على خشونة الأصل، وأن أُنقذ قسوته من الترويض، وهو يشقّ طريقه إلى داخل البنية الفكرية التي نسجتها كارسون بعناية ومكرٍ شعريٍّ عميق.
وأنا أُمعن في الترجمة، لم أستطع الفكاك من صورة أولئك الطلّاب الذين سيقرؤون هذا النص إلى جانب أعمال آن كارسون. تساءلت: هل سيلمحون التوازي بين تفتّت الحداثة في نصوص كارسون، وبين حضور الكاتب العربي الذي يُقاوم المحو بعينٍ مفتوحة على فظائع الحرب؟ هل سيتنبّهون إلى تلك الخيوط الخفيّة التي نسجت صلة بين أستاذ أيرلندي، ومترجمة فلسطينية، وتجارب إنسانية تتهشّم تحت عنفٍ يتجاوز الحدود؟ هل ستتسرّب إليهم غزة من بين السطور رغم أنها لم تُذكر في النص؟ تخيّلت نقاشهم وتأملاتهم ومحاولاتهم لالتقاط المعاني، وتساءلت في قلبي: هل ستصلهم وطأة هذه الكلمات؟ أم أنّ المسافة الجغرافية والعاطفية واللغوية ستقف حاجزًا، فتنأى بالنصّ عن واقعهم، وتجعل منه فكرة عائمة، مجرّدة، لا تمسّ حياتهم؟
قالت آن كارسون ذات مرة: “الكلمات تقفز. الكلمات، إن تركتها، تفعل ما تريد، وما لا بد لها أن تفعله.” ومع كل سطرٍ كنت أنقله، شعرت أن عبارتها هذه ليست محض استعارة، بل حقيقة تتجلّى أمامي بوضوح يكاد يكون مؤلمًا. الكلمات لم تكن جامدةً على الصفحة، بل كانت حيّة، تقاوم وتُلحّ، تطلب أن تُحمَل على محمل الجدّ، أن تُسمَع بصوتها الأصلي، وأن تعبر بين العربية والإنجليزية، بين اليمن وغزة وكارلو. كانت الكلمات تقتحم المساحات التي أُريد لها أن تبقى صامتة، تتجاوز الحدود، وتتخطّى اللغات، وتضغط بثقلها على كل زاوية من زوايا الإدراك. ومع كل قفزة، ومع كل انتقال، ظلّ السؤال يطاردني: ماذا فعلت هذه الكلمات حقًا؟ هل استطاعت أن تُبدّل شيئًا؟ أم أنها فقط أعادت تكرار الحقائق ذاتها، في صورةٍ جديدة، لا تقلّ مرارة ولا وطأة؟
وحين أتممت الترجمة، جلست طويلًا في سكونٍ غريب، يضجّ بما لا يُقال. كان في النص شيءٌ مضطرب لا يهدأ، نصٌّ كُتب عن حربٍ بلا وجوه، فإذا به يُخرج إلى السطح وجوهًا عديدة: وجه الكاتب ووجه الأستاذ ووجوه الطلّاب ووجهي أنا. عندها أدركت أن دوري لم يقتصر على نقل الكلمات، بل كنتُ شاهدة، أحمل على كتفيّ ثِقل حكاية تمتدّ من جرحي الشخصي إلى جراح العالم. عبرت الكلماتُ الحدود، وتخطّت اللغات، أما أنا، فبقيت أُحاور صداها في داخلي: هل تُقرّب الترجمة الحقيقة وتمنحها ما يجعلها أكثر احتمالًا؟ أم أنها تُعيد تشكيلها على نحوٍ يجعلها ملائمة لسياقات أكثر أمانًا وعوالم لم تذق مرارة الحرب؟ هل حفظتُ للسماء ثقلها حين نقلتها إلى لغةٍ تميل بطبعها إلى التجريد؟ أم أنّني، من حيث لا أدري، خفّفت من حدّتها، فجعلتها أكثر قابليّة للهضم، حين تُقرأ من أماكن لا تطالها الحرب؟
لا أملك جوابًا قاطعًا. ما أعلمه هو أن السماء ما تزال هناك، شاسعة، بلا ملامح، عصية على اللين. تظلّ معلّقة فوق رؤوسنا، شاهدةً صامتة، وسلاحًا لا يَرحم. ترقبنا ونحن نكتب ونترجم ونحاول جاهدين أن نمسك بطرف معناها، لكنها تظل في عليائها، تُبقينا في نهاية المطاف أمام سؤالٍ واحد لا يفارقني: حين تتهاوى اللغة تحت وطأة الحرب، من أين نأتي بالكلمات؟ ومن أين نستمدّ القوّة والقدرة على مواصلة الطريق؟